4‏/6‏/2013

مقالة: البكاء - وئام البدعيش

هناك أمور تضع العقل في الكف, كما يقولون. وهناك أمور لا تستطيع أن تزنّها بميزان العقل, طالما أن هذا الميزان غير مخصص لوزن هكذا الأمور، فالعقل يستطع أن يزن بعض الأمور الصغيرة مثل حاجات يومية إلى بعض المسائل الحسابية الصغيرة، وحتى بعض المعادلات الكيمائية يزنها ولكن على مضض.
حتى فكرة الموت هذه الفكرة التي لم يستطع العقل تفسيرها " ولا أعتقد أنه سيستطيع " يتقبلها العقل كما هي بجمودها التاريخي, وصعوبة هضمها وخصوصاً بالمراحل الأولى. وبغض النظر أنّ الموت هو الوحيد الذي يولد بفكرة كبيرة جداً, ثم تأتي الأيام وعامل الزمن لكي تطحن هذه الفكرة وتحولها إلى قطع صغيرة, ثم إلى هباب منثور يطير في غياهب النسيان.
لكن في المقابل لا يستطيع العقل البشري, أو ما تبقى من العقل البشري, أن يتصور طريقة الموت, وكيفية دخوله متسللا عبر مسام الجلد, أو اختراقه بشكل هائل السرعة مع مقذوف صغير, لا يعادل في الوزن سوى سبع غرامات, ولكنه في المقام يعادل رجلاً أو امرأة أو طفلاً بأقل تقدير.
لا تستطع أن تتصور كيف يجتاح الموت بيتاً كاملاً, فتموت عائلة كاملة, حتى سقف البيت عندما يسمع بالخبر قبل وقوعه, يرنو قلبه من فظاعة المشهد الذي سيجري تحته فيُسقط نفسه من تلقاء نفسه.
هناك أمور كثيرة لا يستطع العقل تصورها ولكن الأمر الأصعب, والذي لا يستطيع أي عقل طبيعي" مهما وصل به الذكاء " التفكير به هو الفضاء بين بداية الموت ونهاية الموت.
عندما يطرق الموت بابك, وعندما يأخذ بقايا روحك من أنفها إلى مكان بعيد غير واضح المعالم.
عندما يأتي الموت بلباس راقصة, يرقص أمامك, وعندما تريد أن تموت يصنع حركة تجعلك تتشبث بالحياة ، إلى أن تموت من التشبث ..
عندما تتقابل أنت والموت وجهاً لوجه, ولكنّ الموت هذه المرة لا يقبل أن يأكلك دفعة واحدة, بل يأكلك بالتقسيط المريح وعلى دفعات صغيرة, ممكن أن يبدأ من عقلك أو أي عضو آخر, بحال كان الموت لا يحمل عقلاً. ولكن إذا كان الموت يحمل عقلاً, "هنا تكمن المصيبة ". فلا تستطع تصور بداية الموت ونهايته, وخصوصاً إذا كان هذا الموت على شكل إنسان.
بالمقابل.. يستطع العقل تقبّل أنّ هناك إنساناً لا يريد لإنسان آخر الموت فهذا أمر غاية في الإنسانية .. ولكن لا يستطع ذات العقل تقبل ذات الأمر, إذا كان الأول جلاداً والثاني ضحية, وهناك تواصل كبير وعلاقة وطيدة و قديمة بين الاثنين بأنواع مختلفة من طرق التعذيب ووسائل مختلفة من التشفي .. فيصبح هذا الثاني يتمنى الموت لنفسه لأن الموت " بضخامة الكلمة ورهبتها التاريخية " أرقّ قلباً من نّزعة الحياة التي تبقيه حياً.
عندما نجد أن الموت هو أرحم بألف ألف مرة من الحياة، لا يكون للحياة معنى ولا للإنسانية معنى ولا لله أيضاً معنى.
....كل هذه الأفكار كانت تتزاحم في مخيلتها, لأن الأفكار تملك أجنحة, وتستطيع أن تطير وأن تذهب وتعود دون قيود أو حواجز إسمنتية، ولا تأبه بظلمة المكان أو برائحته النتنة, ولا تأبه أيضاً بازدحامه أو خلوه، فعبر التاريخ كانوا يحاولون ترويض الأفكار بطرق شتى، ولكن هذه الأخيرة لم تكن تنجح... فالأفكار لا يمكن أن تروضها، وإذا روضتها يتحول الإنسان بشكل تلقائي إلى حيوان أليف, ولكنه لسوء الحظ غير منتج ويحتاج إلى معيل، وتكون هذه التجارة خاسرة في أغلب الأحيان على المروض نفسه ...
- كانت كما كانون، وبقيت كما بقوا، يتمنون الموت لأجسادهم بشرط أن تبقى أفكارهم حرة، فالأجساد تفنى والأفكار تطير وتتكاثر في العقول الفتية, ويستمر النسل إلى ما لا نهاية.
ولكن ما كل يتمناه المرء يدركه, فالرياح هنا تجري مع زفير من يملك هذا القفص وهذا الظلام الأبدي ..
- " أين الله " سألت نفسها , ولماذا لا يتدخل لينقذها, لقد سمعت عنه الكثير, وقد كانت تعتبره صديقها, والصديق عند الضيق, نادت عليه من شفاه جروحها المفتوحة, التي كانت تقطر دماً وإنسانية .. لم تسمع رداً.. ولم يغير الظلام من لون ظلّمه الأبدي .. ولم يتحرك شيء في الفولاذ أو في الأبواب التي اهترأ كثير من أجساد البشر عليها وهي لم تهترئ.
لأننا في بلد يعتني بالسجون أكثر مما يعتني بالمدارس ..لأننا في بلد نغازل الموت ونتفنن به، أكثر مما نغازل الأطفال ونلاعبهم ...لأننا في بلد يعتبر الإنسان رقماً ، والرقم بالتأكد لا يملك مشاعر..
كانت هذه الأفكار الجديدة , تزاحم أيضاً مخيلتها وما تبقى من عقلها .. نظرت بما تبقى من نظرها, إلى جدران الظلام المهدمة عليها, حيث كانت خيوط رفيعة من أشعة الشمس, والتي هربت متسللة من نافذة صغيرة جدا بالحجم، وكبيرة بما لا يعطي كلمة كبير حقها بالمضمون. تضرب على ظهر جدران الظلام, فتفتتها إلى فتات صغير, تهرب خائفة وتختبئ في ثنايا الجسم وخلف الجثث الحية الملقاة على الجدران وعلى الأرضية التي كانت تطلب النجدة من شدة البرودة التي تحتلها ... حتى أن بعض فتات الظلام دخل ملتجئاً إلى داخل جسدها مع شهيقها المتبقي.
هذه الأشعة الجميلة بجمالها, والبشعة بحقيقتها, أعادت ظهور الحقيقة التي كانت تحاول بكل عزمها المتبقي أن تبقيها بعيدة عن مخيلتها ..
كانت الجثث الحية, التي تصارع من أجل الموت حباً وليس كراهية, ملقاة على الأرض يداعبها التنفس وما تبقى من دقات قلب، وأيضاً كانت هناك بجانب الجثث بعض الأصابع التي اختفى أصحابها أو ذهبوا للتنزه ونسوها هنا، كانت هذه الأصابع الملقاة على الأرض بمثابة جرس إنذار لما تبقى من الإنسانية في هذه الحياة .. يدق هذا الجرس كل يوم, بصوته المفزع من بداية دخول أشعة الشمس عبر النافذة الصغيرة، إلى أن يدخل الظلام من كل مكان ما عدا النافذة الصغيرة ... مع أن الضّمير كان في البداية يطالب بها في الليل ولكن لأخذ العلم فإن الضمير يروّض بعد مدة, مثله مثل أي كائن آخر...
هذه الأصابع التي كانت تدق بصوتها الأخير, والغير مسموع ناقوس الإنسانية, أيقظت ما تبقى من إنسانية هذه الفتاة, فبدأت تجمع الأصابع, ثم أخذت تحفر أرض الزنزانة بمخالبها وأسنانها, ثم وضعت الأصابع ورقدت عليها بجثتها، وبعد حين بدأت الأصابع تفقس و يخرج منها أطفال رضّع تبكي بلا خوف, تبكي بكل إنسانية ... هذا البكاء أرغم الأسمنت على الذوبان والحديد على التبخر .. أرغم الظلام على التبدد.. وأرغم الحقد على الضمور..
هذا البكاء أيقظ الإنسانية جمعاء...
جعل الأرض تزهر بجانب كل طفل ...
جعل الحليب يتدفق من صدور الأمهات .....
هذا البكاء.. نبه الحياة وقتل الموت .. نبه الإنسانية وقتل الإنسان
ومن وقتها أصبح البكاء يذكر الإنسان بإنسانيته المنهوبة ..